الحمد لله وحده، وبعد:
مما يعلمه المشتغلون بفن تحقيق التراث أن المخطوطات هي شهادة توثيق للكتب محل التحقيق، وأنها لا تَقِفُ على درجة واحدة من الأهمية، بل إن تصنيفها في حد ذاته فنٌّ له أصوله وضوابطه، وأعلاها ما كان بخط مؤلفه …
ومن الإفادات الجليلة في المخطوطات تعليقاتُ العلماء عليها، سواء على مؤلَّفاتهم أنفسهم، أو تعليقاتهم على ما كان في حَوْزَتِهِم من مصنَّفات العلماء؛ لأن هذه التعليقات تُوقِفُنَا على آراء العالِم في هذه الكتب التي علَّق عليها، أو في بعض مسائلها، ولا شك أن هذه التعليقات لها مكانتها من الأهمية أكثر بكثير من تعليقات المحققين المُحْدَثِين؛ للفارق الكبير بين سعة علم الأوائل والمتأخرين.
كما لا يخفى على المشتغلين بتحقيق التراث ما يَلْقَوْنَهُ -في غالب الأحيان- من العنت في سبيل جَمْعِ مخطوطة كتابٍ واحد من كتب التراث، فإن ظفروا بنسخةٍ عليها سماعُ المؤلِّف، أو بخط يده فكأنما حِيزَتْ لهم الدنيا بحذافيرها.
فما بالنا إذا وَفَّقَ اللَّهُ أحدهم للعثور على خزانة ضخمة لعالِم كبير حَوَتْ مؤلَّفَاتِه وتَمَلُّكَاتِه وما عليها من تعليقاته على كثير منها بخط يده، تصلنا كاملةً –غالبًا- غير منقوصة، وقد حُفِظَتْ في وقتٍ دَهَتِ المسلمين داهيةٌ دَهْيَاء لم تُبْقِ ولم تَذَرْ، لكن الله سَلَّمَ لنا هذا الكنز الثمين؛ ليكون بين أيدينا، نُمَتِّعُ أنظارَنا بمرآه، والتجوُّل داخل بساتينه ورِيَاضِه، ونُمَتِّعُ النفس بما نَعْثُرُ عليه من إفادات عَزَّ نظيرُها عن الوجود إذا بها مجموعةٌ في وعاءٍ واحد، ما يعود بالنفع على المسلمين وعلومهم، والله إنه الكنز الذي تَفْنَى من أجله الأعمار، ولا يبخل بجهده في الحصول عليه إلا الأغمار.
والحمد لله قد وَصَلَنَا هذا الكنز العظيم، وقد وَقَعَ مِنَّا موقعَه من العناية والإجلال، والسُّرُور والحُبُور، وهذا الكنز هو خزانة كُتُب المحدِّث الحلبي برهان الدين إبراهيم بن محمد المعروف بسبط ابن العجمي (ت٨٤١هـ).
لقد تعجَّبتُ من كثرة ما وَصَلَنَا من مصنَّفات المحدِّث الحلبي سبط ابن العجمي، خاصة ما كتبه بخطه.
بل الأعجب وصول سائر ما تَمَلَّكَهُ من مصنَّفات غيره، وغير الطبيعي هو وصول الكثير جدًّا من مسموعاته، سواء ما قرأه على أشياخه، أو ما قُرِئَ عليه!
وكنت أرجع ذلك إلى إخلاص هذا الإمام التقي الوَرِع، ولا شك هو كذلك، وأيضًا مِن لُطْفِ الله به.
وكنت فُتِنْتُ بكتابه «نهاية السُّول في رواة الستة الأصول»، وأكثرتُ النظر فيه وإليه، وقيَّدت جُلَّ النُّسَخ التي اعتمد عليها في بناء هذا الكتاب الفريد الذي يُضاهِي في مادته -فيما أزعم- الكتبَ المؤلَّفة على «كتاب الكمال في أسماء الرجال».
وأكثر من نصف «كتاب نهاية السول» للسبط ما يزال في عالم المخطوط، ولم يَرَ النور بعدُ، وقد وَصَلَنَا في مجلد ضخم بخط مؤلِّفه سِبْط ابن العجمي، وتزدان به مكتبة رضا رامبو!
وكنت أمعنتُ النظر في وَصْفِهِ للنسخ التي يعتمد عليها، فوجدته تأثَّر أيَّمَا تأثُّر بفيلسوف هذه الصنعة شيخ شيوخه العلامة علاء الدين مغلطاي.
ولا ضَيْرَ في ذلك، فقد وَقَفَ على العديد من مصنَّفات مغلطاي، واستفاد منها، لا سيما «كتاب التقريب المختصر من التنقيب عن كتاب التهذيب» لمغلطاي، وهو زُبْدَةُ «كتاب إكمال تهذيب الكمال».
و«كتاب التقريب المختصر من التنقيب» لمغلطاي وقع للسبط على حواشي نسخة من «كتاب تذهيب التهذيب» للذهبي بخط … محمد بن عبد الرحيم السبكي.
ومن فضل الله عليَّ أنني بعد بحث طويل ظَفِرْتُ بنسخة «تذهيب التهذيب» للذهبي التي كانت في ملك المحدِّث سِبْط ابن العجمي، وتزدان طُرَرُهَا بـ «كتاب التقريب المختصر من التنقيب» لمغلطاي، وكل الدراسات المؤلَّفة عن مغلطاي نَصَّتْ على كونه في عداد المفقود !
ومن الكتب التي وقف عليها السّبط نسخة بخط مغلطاي من كتابه «منار الإسلام بترتيب بيان الوهم والإيهام» لابن القطان.
ونسخة من «السنن» للترمذي بخط ابن الجوزي، ونص السّبط بأن ابن الجوزي كتبها في أول أمره، وهذه النسخة وقفتُ عليها وعليها تقييدات بخط السّبط.
ونسخة من «الجامع الصحيح» للإمام البخاري بخط الحافظ شرف الدين الدمياطي، وتَزْدَانُ طُرَرُهَا بفوائد كثيرة للدمياطي، وهذه النسخة وَقَعَتْ للحافظ ابن حجر وتعقَّب الحافظ الدمياطي فيما أَخَذَهُ من أوهام على «الصحيح» بحاشية هذه النسخة، وجملة من الأوهام التي زعم الحافظ الدمياطي أنها وقعت في «الصحيح» لإمام الدنيا أرسلها إلى الحافظ اليونيني ضمن رسالة ساقها التاج في «طبقاته»!
وقد تتبَّعت خزانةَ كتب السّبط فوقفتُ على أشياء نفيسة، كحاشيته على «تلخيص مستدرك الحاكم» للذهبي، وتَعْدِلُ نصف الكتاب، وتنتظر من يخرجها إلى عالم المطبوعات.
أما نسخته المجوَّدة التي خَطَّهَا بيده من «كتاب ميزان الاعتدال» للذهبي، والتي نقلها من أصل المحدِّث البرزالي فشيءٌ يَعْجَزُ المرء عن وصفه.
وطُرَرُ هذه النسخة حافلة بفوائد السّبط التي علَّقها من حاشية نسخة شيخه الياسوفي من «ميزان الاعتدال».
وأيضًا حافلة بالتراجم المنقولة عن «الثقات» لابن حبان، وقد نصَّ على الكثير من التحريفات الواقعة في نسخ «الثقات»، وسبق وبَيَّنْتُ في مقال أن نسخ «كتاب «الثقات» مغلوطة؛ لعدم اتصالها بالسماع.
ونسخة السّبط من «الميزان» وقع جزءٌ منها لمحقِّق طبعة مؤسسة الرسالة العالمية، وقد أنعم الله عليَّ بالوقوف عليها تامَّةً من أَوَّلِهَا إلى آخرها، وعليها تقييدات حِسَانٌ بخط حافظ عصره ابن حجر العسقلاني.
وأما نسخته من «المعني في الضعفاء» للذهبي فشيء يُسِيلُ اللُّعَابَ، وكذا نسختُه من «المقتنى في سرد الكُنى»، و «الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة»، و «تقييد المهمل» لأبي علي الغساني، و «زاد المعاد» لابن القيم.
وأما تعليقاته على نُسخة الملك المحسن من «السنن» لابن ماجه فشيء لا يُوصَفُ، حتى أنه أَفْرَدَهَا في مجلد وسط وَصَلَنَا بخطِّه وطُبِعَ في دار أطلس الخضراء.
وما أروع نسخة «الجرح والتعديل» لابن أبي حاتم التي كانت في ملكه، وظهرية النسخة تَزْدَانُ بترجمة لابن أبي حاتم بخط السّبط.
هذه بعض الأمثلة التي يُسْتَدَلُّ بها على عِظَمِ خزانة سِبْط، وعندما أمعنت النظر فيما كتب السبط عن نفسه وتناقله أصحابُ كتب التراجم تَبَيَّنَ لي أنه أثناء الوقعة اللكنية التي حَدَثَتْ في حلب سنة (803هـ) ودَمَّرَتْ الإنسان والحيوان وكل شيء، وقد أرَّخ لها ابن الشحنة بما ينفطر له القلب.
حمل المحدِّث الحلبي سبط ابن العجمي كُتُبَهُ ووضعها في قلعة حلب، فسَلِمَ أكثرها ولم يُفْقَد منها سوى جزءٍ كَتَبَهُ بخطه من شرح شيخه ابن الملقن على البخاري، وأعاد كتابته ثانيةً بعد جَلَاءِ اللنك عن حلب، وفقد أيضًا حاشيته على «صحيح مسلم»، لكن وقفتُ على تجريد لهذه الحاشية بخط تلميذ سبط.
ومما فقده سبط في هذه الواقعة زوجتُه صفية وابنه أنس، وعندما أَسَرَهُ اللنك ثم نَجَّاهُ الله من الأَسْر ذهب إلى بيته فلم يجد فيه أحدًا من أهله سوى أَمَتِهِ نرجس، فأخبرته أنها هربت من اللنك عند الرها، وصارت زوجتَه وأم أولاده.
والله المستعان.
كتبه: محمود النحال أبو شذا